Wednesday, 18 May 2016

البداية في كتابة السيرة النبوية


البداية في كتابة السيرة النبوية [1]

محمد أنيس هداية


النبي صلى الله عليه وسلم هو المقتدى والأسوة الحسنة للأمة الإسلامية. وبسيرته المثالية وصورته الكمالية أصبحت الأمة طوع دستور عدل وقانون كامل، وقد بدت منذ زمن الصحابة والتابعين مبادرة العناية بالسيرة النبوية رواية وكتابة و تناولها إلى الأجيال وحمايتها من الانحراف والإبدال. فمنهم عروة بن الزبير وابن شهاب الزهري وعاصم بن عمر وموسى بن عقبة وغيرهم. وتوّجت هذه النزعة بابن إسحق مع سيرته الكاملة الموثوقة. وأوائل كتب السيرة أنموذج يتضح من مناهجها اتجاهاتهم المخلصة بنقل أحوال النبي كليا من الحضار إلى الغياب والأجداد إلى الأحفاد في تمجيده وتبجيله وتعظيم أموره وإرساخ محبته في القلوب. وهذا البحث يستهدف إلى إلقاء الضوء حول بوادئ الاتجاهات في السيرة النبوية وأصحابها المذكورين في كتب المعاجم والتاريخ.

المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم. وبعد، فلقد تميز المسلمون باعتنائهم الفائق عن حياة سيدهم محمد ص. وتكونت صفحة جديدة في حياة العرب بظهور البعثة والرسالة الإسلامية. وبعد تدوين القرآن الكريم والأحاديث النبوية في القرن الثاني من الهجرة النبوي، توافرت في التاريخ كتب سيرة النبي وتوابعها إلا أن جذورها تنتمي إلى زمن الصحابة وأكابر التابعين باقتداء حياة النبي ص. وانطلاقا من أن عرب الجاهلية اشتغلو بأيامهم وحروبهم وقبائلهم، أصبحت أخبار الجاهلية المصدر الأول لأوائل السيرة النبوبة. والأحاديث الشريفة لعبت دورا هاما في بيان وسيرته وشمائله وما تتعلق بها.
وتناولت الشفاه باعتبار  سوانح السيرة المصطفوية والوقائع المرتبطة بشخصية الرسول المتميزة كليّا من أحواله قبل البعثة، ثم هجرته وحروبه ودواعي انتشار الإسلام في المدينة المنورة. واشتغل بنقيره وقطميره وحتى بأدق التفاصيل عن شخصيته الفذة. وأصبحت التاريخ الإسلامي في حُلتها الجديدة حيث صارت قدوة حتى للتاريخ العالمي العلمي.
وبعض كتب التفسير بيّن أيضا بعض الوقائع المتعلقة بالآيات القرآنية تابعا لها. وأكثر كتب السير في بوادئها مركبة بالأحاديث النبوية واشتغل بهاسيما أهل المدينة لأنهم أحق بها. ثم تطور هذا الفن حتى انفصل عن المغازي والشمائل من الأحاديث النبوية وتدرّج إلى آفاق حسب بزوغ فجر الإسلام في كل الأنحاء. فبوادئ السيرة العطرة مفهومة عبر إسهامات ثلاثة أجيال في القرون الهجرية.
الجيل الأول
الفئة الأولى من علماء التاريخ الإسلامي علماء في المدينة المنورة من التابعين. فكانت سيرتهم مجرد الروايات عن حياة النبي ص شاملا في هذا المجال. ومن الرواة للسيرة في أول أمرها ثلاثة من التابعين: إبان بن عثمان، وعروة بن الزبير ووهب بن منبه. وكانوا مصادر السوانح العطرة للسيرة النبوية لأصحاب الكتب بعدهم.
1 - إبان بن عثمان (ت 105/723)
وهو ابن الخليفة الثالث أمير المؤمنين عثمان بن عفان الذي استوطن المدينة ثم أقام بمكة. وكان فقيها ومحدثا روي عديدا من الأحاديث التي تكون ذات صلة بحياة الرسول ص وتعاليم الإسلام. ويروى أنه جمع أخبارا عن الرسول وحياته ومغازيه في رسالة، إلا أن بعض الإخباريين  قالوا بأن معه أحاديث رواها عنه نحو تلميذه عبد الرحمن بن المغيرة (ت 125). ومن العجب أنه لا يذكر عن هذا شيء في كتب ابن هشام ولا ابن سعد.
2- عروة بن الزبير (ت 92/ 710)
هو عروة بن الزبير ، ابن أسماء بنت أبي بكر الصديق، وأحد الفقهاء السبعة في المدينة. وهو المؤرخ الفقيه الذي تتلمذ على خالته عائشة الصديقة حتى أصبح ثقة في رواية التاريخ الإسلامية عن العقود الأولى نحو الهجرة إلى الحبشة ثم إلى المدينة ووفاة خديجة الكبرى وغزوة بدر وفتح مكة المكرمة وغيرها.  وبصلته المتواصلة مع الخلفاء الأمويين، غادر إلى دمشق ما بين آونة إلى أخرى، بما تبوّأت المكانة العليا في نشر السيرة على المستوى الرسمي حيث التجأ إليه الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان في احتياجه معلومات عن تاريخ الإسلام الأول. وبالرغم من هذه المراسلات اشتهر بالإملاء على طريقة إسناد الأحاديث النبوية حتى يعتبر مؤسس علم التاريخ الإسلامي. وروى عنه حتى مقتطفات الأشعار كثير من المؤرخين كابن إسحق والواقدي والطبري، ولم يثبت عنه كتاب في التاريخ سوى أنه صاحب الصحيفة الصادقة في الأحاديث التي لها صلة بالأحكام الشرعية.
3- وهب بن منبه (ت 110/728)
هو وهب ابن اليهودي، الفارسي أصلا واليمني بلدا. وكان من طليعة من اهتم بكتب اليهود والمسيحيين المقدسة وبتقاليدهم الدينية بالملكة الاستثنائية بعلاقته لهم. وقد اشتهر بكتابه في المغازي حيث يسلم جمهور الأمة مع عديد سواها عن المغازي وتاريخ اليمن. واسم كتابه مختلف فيه: كتاب المبتدأ أو الإسرائيليات أو قصص الأنبياء. فربما أسند وتركه في دونها،  حسب توسعه عن المغازي إلى ما سواها من بيعة العقبة الكبرى واجتماع أهل مكة في دار الندوة واستعدادات الهجرة وغيرها.  وقد اكتشفت مخطوطة هذا الكتاب في هيدلبرغ.

الجيل الثاني
ظهرت بداية الجمع والتدوين للسيرة مما لها صلة بحياة النبي ص ومغازيه عن بعض الأحاديث في الجيل الثاني المشتملين من: عبد الله بن حازم، وعاصم بن عمر وابن شهاب الزهري. فبالتسهيلات الرسمية من الحكام والأحوال اللائقة ساهموا في نشر هذه المهمة الأبية. وقد روي لكلهم كتاب مستقل في هذا المجال سوى أنها لم نجدها إلا في روايات بعض كتب السير بعدهم.
1 – ابن حازم (ت 135/752)
هو عبد الله بن أبي بكر بن حازم، صاحب الباع الطويل في الحديث الشريف وأحكام الفقه الإسلامي في مدرسة المدينة. فتخصص عن حدود المغازي إلى شباب النبي ص وبعثته المبكرة ووفود القبائل بالتوسع في المنهج الإسنادي. ولم يوجد إلينا كتابه في المغازي إلا أنه هو من أهم مصادر ابن إسحق والواقدي وابن سعد والطبري في اقتباساتهم التاريخية عن حياة النبي ص. وهو أول من تجرّب التقويم الترتيبي والتسلسل الزمني للحوادث المتعلقة بغزوات الرسول ص. واستند إلى الوثائق المكتوبة في كتابة السيرة نحو رسائل النبي ص إلى الملوك والقبائل. وروي عنه ابن إسحق حظا وافرا مشتملا على بعض الأشعار اللأئقة فيها.
2- ابن قتادة ( ت 120/ 733)
هو عاصم بن عمر بن قتادة من المهتمين بالمغازي والسير من علماء المدينة المنورة. واشتهر فيها بمحاضراته ودروسه من الجامع الأموي بدمشق أثناء 99 و101 الهجري. وكان هذا بدعوة الخليفة عمر بن عبد العزيز مع وافر التسهيلات له في العاصمة لإلقاء الدروس المنظمة عن حروب الرسول ومغازيه بالإضافة إلى مآثر الصحابة. وقام بعض الطلبة بتسجيل هذه المحاضرات القيمة. ولإمهال الخليفة يزيد بعده عاد إلى المدينة نفسها بعد الفترة مع علمه السامي في السيرة والمغازي. وتدل اقتباسات ابن سعد في الطبقات عن عاصم أنه أتى ببعض التفاصيل التي تتعلق بحياة الرسول ص الأولى في المكة المكرمة كما أنه في أغلب الأحيان لا يورد السند وفي بعضها يذكر رواته وثقاته مع تدريج آرائه الشخصية في بعض الوقائع التاريخية كما أنها محلاة بروايات بعض الأشعار.
3 – محمد ابن شهاب الزهري (ت 124/ 741)
وهو صاحب اللواء في هذا المجال، محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري من أصول الأنصار في المدينة المنورة. وينتمي إلى القرشيين المكيين من بني زهرة. ومع لقبه بأعلم أهل المدينة كان ذا ذاكرة قوية ورائدا في الاستقصاء والتحقيق والتمحيص بتقصّي الحقائق واستجواب الأشخاص الموجودة  الذي بوّأ له تلك المكانة المرموقة في تدوين السنة النبوية على الإجمال. وأخلف ثقافة علمية سائدة في مجال التاريخ الإسلامي. ومع شهرته لدى الخلفاء الأمويين عبد الملك وابنيه يزيد وهشام، أمره عمر بن عبد العزيز  بتدوين الأحاديث النبوية خوف الاندراس لوافر ذكائه وفكره الحار والبحث العلمي. فكان ألف فيه وفي تاريخ أسرته وفي المغازي كتبا. ومن الأسف أنه لم نطلع على أي منها سوى بعض روايات من بعده عنها في كتبهم ككتب الحديث وكتب التاريخ الإسلامي. ويفهم من تآليف تلامذته عن أماليه أنه كان يستعمل الأسانيد وسلسلة الرواة على الأكثر في كتبه ورواياته.
الجيل الثالث
وبهذا العصر ظهر النضوج في البحوث العلمية والتاريخ الإسلامي ككتابة سيرة النبي ص خصوصا، وفي باقي الفنون بشكل عام.  وتطورت بظهور كتب ومؤلفين بالمعنى الحقيقي بالتنظيم والتحقيق عن حياة رسول الله ص أو بعض النواحي المختصة منها. وتكاملت كتابة السيرة النبوة بهذا الجيل من المؤرخين. وهم أيضا ثلاثة نفر: موسى بن عقبة ومعمر بن راشد ومحمد بن إسحق.
1 – موسى بن عقبة (ت 141/ 758)
كان مولى لآل الزببير وازدهر بعد تلمّذه على ابن شهاب الزهري. وتبحّر في المغازي كما قال مالك بن أنس: "عليكم بمغازي موسى، لأنه ثقة صدوق". ولم يوجد من كتابه إلا بعض المقتطفات المحفوظة في المكتبة الوطنية الإيرانية. ونشر هذا الكتاب المحقق في عشرة فصول متضمنا بالأحاديث الشريفة عن مغازي النبي ص والهجرة بأوسع معانيها عن الزهري على الأكثر. وشملت أسماء المهاجرين والبدريين ما سهل الطريق بعده لابن سعد والواقدي والطبري.
2 – معمر بن راشد (ت 150/767)
كان من الموالي البصريين وتلميذا لابن شهاب الزهري. وإنما توجد الآن روايات عنه حيث كان المصدر الرئيسي للواقدي وابن سعد والطبري والبلاذري في معلومات عن المغازي بالإضافة إلى إسرائيليات متعلقة من التوراة وأخبار الديانات السابقة والأنبياء المتقدمين، وتاريخ الرسول من قبل الهجرة. فبموهباته الحلمي والعلمي رحل البلاد الإسلامية خارج المدينة بخلاف غيرهم من المؤرخين السابقين حتى وصل مقاطعات اليمن. وقد روي عنه كثير من الوقائع التاريخية.
3 –ابن إسحق (ت 85-152/704-769)
هو أبو عبد الله محمد بن إسحق المعروف كأول من ألف سيرة نبوية كاملة من مبدإها إلى منتهاها. وبأسر أجداده في زمن أبي بكر، استوطنت أسرته المدينة كالموالي وتعمق في الحديث والأحكام الشرعية. وانضم ابن إسحق في أوائل شبابه إلى محاضرات الزهري، وأخذ من التابعين كعاصم بن عمر وعبد الله بن أبي بكر. واضطر أن يرحل إلى مصر لعداء شخصية مع هشام بن عروة ومالك بن أنس، فانضم إلى دروس يزيد بن أبي حبيب هناك. ورجع بعده إلى المدينة نفسها ثم ذهب إلى العراق لخدمة الخليفة أبي جعفر المنصور. فبسمعته في المغازي مع ثقته وأمانته المشهورة، قابلت الأمة هناك كتابه المشهور "سيرة رسول الله". فبالرغم من مدح المداحين نحو عمله وشخصيته، واجه كثيرا من الانتقادات من المسلمين وغيرهم.
سيرة ابن إسحق
ابن إسحق هو صاحب اللواء في سرد حياة الرسول بمكانة طبيعية من التاريخ العالمي. وشمل جميع معارف العرب القديمة والحوادث ومن مولد النبي ص إلى الانتهاء من العهد المدني كليا ضمن ثلاثة أقسام من كتابه: (1) المبدأ أو المبتدأ، (2) المبعث، (3) المغازي.
فاعتمد في الأول على مرويات ومأثورات يهودية ومسيحية وعلى سير الأنبياء السابقين من مدوّن وهب باسم "كتاب المبتدأ" أو "الإسرائيليات". وقسم المبعث قص عن الاضطهادات القرشيين على المسلمين في أول الإسلام وما تليها من الحوادث إلى أول معركة عسكرية نشبت بينه وبين أعدائه من المدينة بعد الهجرة. فالمغازي شامل للوقائع التاريخية من حياة الرسول ص في المدينة إلى وفاته بغاية الدقة والصحة. فاستقى من المصادر الرئيسية كالقرآن الكريم فيما تتعلق بغزوة بدر وأحد والأحزاب وغيرها كحديث الإفك تابعا للتفاسير من الصحابة وأكابر التابعين. واعتمد اعتمادا كبيرا على الأحاديث النبوية الموثوقة في أحواله وهجرته ومغازيه وما إليها بتوافر المواد. وقد عانى في مصادره أخرى مثل: الأنساب العربية، والأشعار التاريخية، والمعلومات الإسرائيلية، والمواد الوثيقة والمأثورات عن الأشخاص. ولم يورد آرائه الشخصية أثناءه كما استعمل في الأمور المترددة كلمة "زعم أو زعموا". ومنهج ابن إسحاق يقوم على إيراد الأخبار بالأسانيد التي وصلت إليه، وبعضها موصول وبعضها منقطع أو معضل، سيما في القسم الثالث عن نحو عاصم والزهري، في حين أن بعض الأخبار يوردها بدون إسناد. فحاول أن يجمع بين منهج المحدثين القائم على الأسانيد ومنهج الأخباريين المتحررين من الالتزام بالأسانيد.
ولا توجد سيرة ابن إسحق الأصلية إلا معدّلة ومنقحة بأيدي عبد الملك بن هشام البصري (ت: 218/799). وسمع نسختها عن أستاذه البكائي. واستبعد التاريخ التوراتي منها من آدم ع إلى إبراهيم ع فحذفه كمن ليس في نسب النبي بعد إسماعيل ع. وقد بين خطته في المقدمة بتلخيص سيرة ابن إسحق من حجمه الأصلي مع حذف أقاصيص غريبة ليست مباشرة بحياة النبي ص والأشعار المنتقدة. ومدحه مستقبل الإسلام كالسيوطي بصنيع ابن هشام هذه التعديلات الجوهرية مع الإضافات المهمة. وأصبحت أول المصادر المتداولة عن التاريخ الإسلامي كما أنه طبعت مرارا في شتى أنحاء العالم بما فيها الحواشي والتعليقات والتقريرات والترجمات.
وتكميل صورة التطور في كتابة السيرة النبوية كان بظهور كتابين بعده: المغازي للواقدي وطبقات ابن سعد. فلعبا دورا لا مثاليا في إكمال هذا التطور الفني التدريجي إلى ذروة ما مهّد الطريق للكتب بعده بالتركيز على مقتطفات من السيرة المصطفوية. وهذه الكتب لعبت معيارا مصدريا لما  بعده كالأخبار الطويل لأبي حنيفة الدنيوري، وتاريخ الأمم والملوك لمحمد بن جرير الطبري، وفتوح البلدان للبلاذري، وكتاب مكة وأخبارها وجبالها للأرزقي وغيرها من الكتب القيمة.
كتاب المغازي للواقدي
هو أبو عبد الله محمد بن عمر الواقدي (ت 207/823). وسمع من المدينة من مالك بن أنس ومعمر بن راشد وغيرهما. وبالرغم من تشيعه فاز بالتعاون الحكومي من الخلفاء العباسيين سيما الرشيد والمأمون، وحظي باهتمام التأليف والتعمق في التاريخ الإسلامي مع ما قيل كان عنده ست مائة قمطر كتب وعبدين للكتابة والنسخ. ووصل إلينا من كتبه "كتاب المغازي" المكتشفة عن الحديث الشريف والفقه الإسلامي حسب اهتمامه إليهما مع المصادر السابقة والعهود والمواثيق ونحوها. وسرد أسماء الثقات المقسمة في مقدمته كما تبرز هذا بالمنهجية الحيوبة وعملية البحث والتحليل المثير. فالواقدي جعل حقل المغازي مجالا خصبا، بل أقل مستعمل الأشعار من ابن إسحق. وروي عنه كتب في فتوحات المكة والشام والعراق وغيرها من كتب التاريخ.
الطبقات لابن سعد
هو أبو عبد الله محمد بن سعد بن مانع البصري (ت 230/844)، كاتب الواقدي وأمين سره. وأخذ عنه وهُشيم وسفيان بن عيينة والوليد بن مسلم. وارتحل من البصرة حتى استوطن بغداد فدرس فيها الحديث. وكتابه في الطبقات نسيج وحده في ترتيب سير الأشخاص حسب الترتيب الزمني والتاريخ التسلسلي. وألحق في طبقاته أخبار النبي ص مع تفاصيل المعاهدات والسفارات ومرضه وغيرها من المراثي والقصائد في شأنه ص. وإنما طبع الكتاب محققا في القرن الرابع عشر الهجري في هولندا. والغاية الأساسية من جمع هذه المواد كانت المساعدة في تنقية الأحاديث النبوية ورجال السند. وكتاب ابن سعد هذا يحوي تفاصيل مهمة أكثر عن سيرة ابن إسحق، إلا أنه مع مصدريته الرئيسي هشام بن السائب الكلبي تعطي هذه الثلاثة صورة واضحة وكاملة في السيرة النبوية.
الخاتمة
تميزت الأمة المسلمة باختصاصهم وعنايتهم بالسيرة النبوية. وتوجد لكتابة السيرة بواعث دينية وعلمية وجدلية من نحو تعليم العبادات والأخلاق كما أن الجدل الديني انبعث في الدفاع عن الرسول من ذب أهل الكتاب وغيرهم على أقوالهم وزعمهم الباطلة بهذا الصدد مصداقا لقوله: والله يعصمك من الناس، الآية. ومن كتب التاريخ الإسلامي ما تركزت مجرد أخبار معينة أو مجموعة من الأخبار أو تاريخ الإسلام أو العالم بالعموم. فمن الأجيال تبادلت هذه الفكرة الحية حتى دونت جميع جوانب السيرة من عصر التابعين ومن بعدهم، حتى بلور وتطور هذا المجال. وتوجد عن هذه في نحو كتاب الفهرست لابن النديم وكشف الظنون لحاجي خليفة.



[1] د/ محمد ماهر حمادة، مراجع مختارة عن حياة رسول الله صلعم، (الرياض: دار العلوم للطباعة والنشر، 1402)، من ص 19- 52.

المقارنة بين المصطلحات المتشابهة لدى القراء والمحدثين

 المقارنة بين المصطلحات المتشابهة لدى القراء والمحدثين
محمد أنيس هداية


القرآن والسنة وحيان من عند الله تبيانا للناس لكل شيء وأساسا للشريعة الإسلامية. فتلقاهما الأمة بغاية الدقة والتمحيص والموازين القسط في القبول والرد والاستدلال وغيرها. وتدرّجت الاصطلاحات الخاصة بكلا الفنين في كتب العلماء العباقرة. وتميزت علم مصطلح الحديث الشريف بمؤلفات تليدة من القديم إلا أن علم القراءة تطور في العصور المتأخرة. والأنواع المشتهرة في علم الأصولين تشابهت في بعض المصطلحات نحو الأنواع الستة: المتواتر، المشهور، الآحاد، الشاذ، المدرج والموضوع التي يبحث عنها كدراسة مقارنة في العلمين. والبحث يلقي الضوء على نشأة علمي القراءات ومصطلح الحديث، الأنواع عند القراء والمحدثين.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ليكون للعالمين بشيرا ونذيرا، والصلاة والسلام على من علّمهم الكتاب والحكمة وأنزل عليه القرأن ومثله معه، وكان فضل الله عظيما، وعلى آله وتبعه حماة الوحيين – القرآن والسنة - على مر الدهور وفق قوله: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"[1] بمقاييس قيّمة، وبعد.
السنة النبوية وحي من الله كالآيات القرآنية. لأن الرسول ص "ما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى".[2]فمصداقا لتكفّل الله حفظ الذكر -بما يشمل القرآن والسنة- لا زال في الأمة الإسلامية من يبذلجهودا مضنية من قديم العصور بهذا الصدد على المستوى الديني والعلمي. وهذه الأطروحة تستهدف إلى مقارنة علمي القراءات والحديث ومصطلحاتهم المشابهة بمراجعة مقالة د/ مشعل محمد الحداري –مدرّس جامعة الكويت- في مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية.[3] فكأنه ابتكر لمثل هذه المحاولة الفعالة في تحديد المصطلحات العلمية لدى القراء والمحدثين والدراسة المقارِنة بين بعضها.
ولا شك أن القرآن ونصه مجموع بين الدفتين ومحصور من زمن الخلافة الراشدة. ونصوص الأحاديث الشريفة متعددة دوّن بعضها جهابذة العلماء في كتبهم عن الرواة من عصر النبي ص. ومن زمن الصحابة والقدامى نفسه، كانت لهم مقاييس ومواقف قيمة في المعاملة معها حيث هما الأساسان للشريعة الإسلامية. وقداقتدى فيها لخلف بالسلف وتطور إلى أن صارا مليئا بالتصانيف المتعلقة.

نشأة علمي القراءات ومصطلح الحديث
فانطلاقا من جلالة علمي القراءة والحديث، حظيتا بالمكانة المرموقة تبعا لمنبعيهما من سائر العلوم الشرعية. ومن حيث أن العلمين ينبثقان عن مشكوة واحدة إلهية، لا بد أن يرى التشابه بينهما ومصطلحهما مع أن بعض العلماء ساهموا مساهمات بناءة في كل العلمين على حدة.
حفطت آيات القرآن الكريم أولا في القلوب والصدور ثم الصحائف والسطور. وقد أنزل على سبعة أحرف لتسهيل الأمة المحمدية. وقد تناقله الصحابة إلى أولادهم قراءة وفهما وعملا. ثم إن جمعه بمعنى كتابته حدث في الصدر الأول ثلاث مرات: الأولى في عهد النبي ص والثانية في خلافة أبي بكر خشيةَ الضياع بموت كثير من حفظة القرآن بمعركة اليمامة ثم الثالثة في عهد عثمان بنسخ المصاحف حسب المدون عند حفصة وإرسالها إلى الآفاق مع الأمر بإحراق الأخرى خوفَ الاختلاط والاختلاف. فجمع القرآن بين الدفتين بعد دور التأليف والجمع والنسخ. ثم ظهر في المجال ما يسهل التركيز في علم القراءة مثل: أبي عبيد القاسم بن سلام البغدادي (224ه)، وأبي حاتم سهل السجستاني (255)، وابن مجاهد العطشي (324)، وابن مهران (381)، وابن سوار (496)، وأبي العز (521)، وأبي العلاء (529)، والواسطي (741) وغيرهم من العلماء الكرام. وقد تطور هذا الفن بكتب في بحوث علوم القرآن بمثل: البرهان في علوم القرآن للزركشي (794)، والمقدمة الجزرية لابن الجزري (833)، والإتقان للسيوطي (911) إلى أن زادت الكتب القيمة إلى الوقت الحاضر.
تماشيا مع القرآن الذي يحث على تفحص النبإ من الفاسق أن يصيب في الندم، ورجاء أن يشمل في قول النبي ص: نضّر الله امرءا سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه.. الحديث. تسابق الصحابة في نشر السنة النبوية المطهرة على أرجاء المعمورة. ورواية علم الحديث تنتمى إلى عهد الرسول ص. وكان تدوينه الرسـمي تحت إشراف عمر بن عبد العزيز في بداية القرن الثاني الهجري. فلما "صعد الناس الصعب والذلول"، ميزوا الصحيح من السقيم والمقبول من المردود بمقاييسهم المتينة. وهولاء الوقاة الحماة الذابون عن الرسول ص ضعيف الأحاديث حكموا على الرواة ضمن عرض أقاويلهم وفحص حياتهم وغيرها. فبدت الكتب في فن مصطلح علم الحديث بعد الرسالة للشافعي (204)، وسؤالات أحمد (241)، ومقدمة الصحيح لمسلم (261)، ورسالة أبي داود (275)، والترمذي (279)، وابن أبى حاتم الرازي (327)، وابن حبان (354) وغيرهم.ثم ظهرت الكتب في دراية الفن بالتصانيف المستقلة كالمحدث الفاصل للرامهرمزي (360)، ومعرفة علوم الحديث للحاكم النيسابوري (405)، والكفاية والجامع للخطيب البغدادي (463)، والإلماع للقاضي عياض (544)، ومعرفة أنواع علوم الحديث لابن الصلاح (643)، والباعث الحثيث لابن كثير (774). وشوهدت مرحلة النهضة الحديثية بعده بكتب نحو التقييد والإيضاح للعراقي (806)، ونزهة النظر مع نخبة الفكر لابن حجر العسقلاني (852)، وفتح المغيث للسخاوي (902)، وتدريب الراوي للسيوطي (911) وغيرها من الكتب اللامثالية. واستمر التأليف على هذا المنوال في العلمين–القرآن والحديث- إلى العصر الراهن.

الأنواع عند القراء والمحدثين
وبعد تدرج التطور والتأثر بالعلوم الأخرى، بدت العناية بالمصطلحات العلمية لدى علماء كلا الفريقين من المحدثين والقرآء. ونمت ماهية الكلمات المستعملة عندهم بتنقيح العبارات والتمثيل وغيرها. وبتهيئة الله في كل عصر من يتفرغ لحفظ الوحيين، أولى العلماء الأجلاء من العلمين دقيق عنايتهم لتحرير التعريفات والمسائل والفروع منذ فترة مبكرة. ويختلف الأنواع فيهما على أقوال من ساهموا فيها وقسموهما حسب وجهاتهم المفهومة من حيث الاحصاء والحصر.
وقد اتفق القراء على ثلاثة أركان لقبول القراءة القرأنية: صحة السند، وموافقة رسم المصحف العثماني ولو احتمالا، وموافقة اللغة العربية ولو بوجه. فمن المصنفين (1) من قسم الآيات إلى الثنائية فقط من حيث القبول والرد. أي: المتواتر أو الشاذ، والأكثر على هذا الرأي. (2) ومكي بن أبي طالب قسم القراءات إلى ثلاثة. ما يقبل من القراءة فيقرأ به، وما لا يقبل ولا يقرأ به، وما يقبل ولا يقرأ به. فالأول ما اكتملت الأركان والثاني ما تخلف فيه الموافقة والثالث ما خالف العربية. (3) البلقيني قسمها إلى الثلاثة: المتواتر والآحاد والشاذ. فالأول قراءة السبعة والثاني الثلاثة الملحقة إلى العشر والشاذ ما سواها. (4) استلخص الجلال السيوطي من كلام ابن الجزري في الإتقان أن القراءات على ستة أنواع: المتواتر والمشهور والآحاد والشاذ والمدرج والموضوع.
تعددت الأنواع عند المحدثين أكثر من القرآء. فالنيسابوري جعلها 52 نوعا في "معرفة علوم الحديث"، وابن الصلاح إلى 65 نوعا كما حصرها السيوطي في 93 نوعا في التدريب. فبالطريقة المبتكرة سرد العسقلاني في النخبة والنزهة ما يزيد من مائة مسائل في علم مصطلح الحديث. والتجوز العقلي لا يحصيها مما يطرأ بمثل مبحث رواية الحديث بالمعني. والأنواع عندهم لها كتب مفردة في الفن خلافا لمصطلحات القراءات إلا من المعاصرين في العصر الراهن.

مقارنة بعض مصطلحات علمي القراءة والحديث
العرف العلمي يختلف بأربابه المتداولين في صناعة الحدود والتعاريف وتلبي الحاجة الفعلية لكل علم. وقد تشابهت أسماء مصطلحات علمي قراءة القرآن وعلم مصطلح الحديث الشريف في ستة أقسام: المتواتر والمشهور والآحاد والشاذ والمدرج والموضوع. واتفقت في اسم المصطلح ودلالته واختلفت تارة أخرى حسب مقتضيات العلم واختلاف الغرض للعلماء المشاركين فيها.
1.     المتواتر
المتواتر اسم فاعل مشتق من التواتر. والتواتر لغة: هو الانتشار والكثرة والتتابع. يقال تواتر المطر أي تتابع نزوله، وتوترت الإبل إذا جاء بعضه في إثر بعض عقب بعض. وهذا رواية الجمع عن الجمع مما لا خلاف أن هذا النقل أقوي من رواية من هم أقل منهم في العدد. وقد اشترط المتكلمون المتواتر في أخبار العقائد على الإجمال كما ذهب إليه الفقهاء والأصوليون.
المتواتر في اصطلاح القرآء: عرّف ابن الجزي "المتواتر: ما رواه جماعة، كذا إلى منتهاه"، والبنّاء "ما رواه جماعة عن جماعة يمتنع تواطئهم على الكذب من البداءة إلى المنتهى". واختلفوا في تعيين العدد كما اتفقوا على إفادته العلم مع حصرهم المتواتر في القراءة السبعة أو العشر لا دونها. فلا يضاف إليها شيء ولا تحذف منها قراءة. فالمتواتر مصطلح معلوم متداول بين القرآء.
المتواتر في اصطلاح المحدثين: والخبر المتواتر: ما بلغت رواته في الكثرة مبلغاً أحالت العادة تواطأهم على الكذب من أوله إلى آخره. هذا هو خلاصة التواتر عند المحدثين.
وللمتواتر شروط أربعة، وهي :(1) أن يرويه عدد كثير وقد اختلف في أقل الكثرة علي أقوال.
(2) أن توجد هذه الكثرة في جميع طبقات السند .(3) أن تحيل العادة تواطؤهم علي الكذب. (4) أن يكون مُستَند خبرهم الحِس، كقولهم سمعنا أو رأينا أو لمسنا، فيسمي الخبر حينئذ متواترا .
والمتواتر يفيد العلم الضروري واليقيني، فكان المتواتر كله مقبولا ولا حاجة إلي البحث عن أحوال رواته كما أن جاحده يكفر. وهناك :- المتواتر المعنوي: هو ما تواتر معناه دون لفظه، والمتواتر اللفظي: أي ما تواتر لفظه ومعناه مثل حديث "من كذب عليّ ". مع الخلاف في الوجود.
المقارنة: اختلاف العلماء في الحكم من سبب اختلاف مدلول المصطلح في العلمين. فالقرآن لا يقبل فيه ما دون المتواتر على المعتمد، حيث إن الحديث يقبل المتواتر ودونها من الآحاد بالفحص والمقياس مع أنه واجب الاعتقاد بصحتها، وحتى الضعيف في الفضائل عند البعض. والمتواتر عند المتقدمين فيهما بمعنى تعدد الطرق وكثرتها وعند المتأخرين بمعنى ما يحصل به العلم الضروري بمجرد السماع مع استواء أطرافه ووسطه بالكثرة المختارة. فالمتواتر قليل نسبيا في الأحاديث النبوية بينما القرآن كله متواتر. وهناك كتب في جمع الأحاديث المتواترة.
2.      المشهور
المشهور لغة اسم مفعول من الشهرة، أي المعروف بين الناس ودائر عل ألسنتهم. والمشهور على المعنى اللغوي ما اشتهر على ألسنة الناس من غير توافر شروط المشهور الاصطلاحي فيه. فيشمل ما له إسناد واحد وما ليس له إسناد ما.
المشهور في اصطلاح القرآء: المشهور عند القراء: ما صح سنده ولم يبلغ درجة التواتر، ووافق العربية والرسم، واشتهر لدى القراء. وليس من الغلط ولا الشاذ إلا أن هناك من يختلف في حكم القراءة به.
المشهور في اصطلاح المحدثين: المشهور عند المحدثين أن المشهور الاصطلاحي ما رواة ثلاثة فأكثر ولم يبلغ حد التواتر. وهو المستفيض على رأي مع اشتراطهم أن لا يقل الرواة عن الثلاثة من الصحابة. ويستعمل على العموم على معان أخر.
المقارنة: المشهور عند القراء ما حقق أركان القراءة الصحيحة واشتهر عندهم مع اختلافهم في قبوله لعدم تواتره. ويشابه ما عند المحدثين من حيث الاسم لأنه عند القراء لا يتوقف على تعدد الطرق بخلاف المحدثين. ويعنون به المشهور عند علمائهم بالقبول. وهو دون المتواتر في العلمين بلا خلاف. ويمكن حصر المشهور عند الفريقين على ثلاثة: الاصطلاحي وغير الاصطلاحي وعند أهل الفن. وفي الأحاديث المشتهرة على الألسنة مؤلفات خاصة.
3.      الآحاد
هو رواية الشخص الواحد لغة، ويختلف مفهومها في العلمين.
الآحاد في اصطلاح القرآء: الآحاد عندهم ما صح سنده وخالف الرسم أو العربية أو لم يشتهر كما عرّفه السيوطي. وقال ابن الجزري بقبول قراءة اكتملت الأركان الثلاثة ولم يستفض مع أن أخذ القرآن بأخبار الآحاد غير جائز عند أحد من الناس. وهو داخل في عموم الشواذ عند الجمهور.
الآحاد في اصطلاح المحدثين: وهو عند المتأخرين يستعمل في مقابلة المتواتر. فمن تقسيم أهل الاصطلاح الخبر باعتبار تعدد طرقه: فما ليس لطرقه حصر، يسمونه المتواتر. وما له طرق محصورة يسمونه الآحاد ثم ينقسم إلى المشهور والعزير والغريب. والقبول والرد إنما يكون بتفحص حال الراوي والمروي والحكم عليه بما تقتضيه قواعد علمهم. فما صح منه واجب العمل.
المقارنة: دلالة الآحاد عند القراء واسعة المعنى. وفي قبول ما حقق أركان القراءة المقبولة خلاف. والغالب على رده لدخوله في الشاذ حينما ابن الجزري رجح قبوله. وكلما ليس متواترا آحاد عند المحدثين، فلا يحكمون بقبوله ولا رده إلا بعد فحصه والحكم عليه بما يناسبه ويوجبون العمل بما ثبت منه.
4.      الشاذ
الشاذ لغة اسم فاعل من "الشذوذ" أي الانفراد. ويختلف تفصيله في علمي القراءة والحديث في وجوه.
الشاذ في اصطلاح القرآء: لم يختلف القراء في رد الشواذ من القراءات. والمشهور في تعريفه قول السيوطي: "أنه ما لم يصح سنده". ومصطلح الشاذ عند القراء مصطلح خاص يقصدون به ما خرج عن أركان القراءة المقبولة. ويشملون تحته المنكر والغريب والموضوع والباطل من القراءات كما أن بعضهم أدخل الآحاد أيضا في الشواذ. والقراءات الشاذة أيضا -كالقراءات المتواترة- تتفاضل بحسب إسنادها قوة وضعفا، وبحسب رسمها مخالفة وموافقة، وبحسب عربيتها فصاحة ونحوا وتصريفا. وقد ألف كثير من العلماء في بيان القراءات الشاذة وتوجيهاتها. وقد سمّى بعض المتأخرين ما لم يصح سنده شاذا، والأولى تسميته بالضعيف، كما هو الأقرب إلى الأذهان كاصطلاح أصول الحديث.
الشاذ في اصطلاح المحدثين: الشاذ ما رواه المقبول العدل مخالفا لمن هو أولى منه حينما المنكر ما رواه الضعيف مخالفا للثقة. فيعلم من هذا أنهما يشتركان في اشتراط المخالفة ويفترقان في أن الشاذ راويه مقبول ، والمنكر راويه ضعيف. وقد اختلف العلماء في تعريفه على أقوال متعددة لكن هذا التعريف هو الذي اختاره الحافظ ابن حجر وقال : انه المعتمد في تعريف الشاذ بحسب الاصطلاح، وابن الصلاح قد سوّى بينهما.
المقارنة: القراء يرون مخالفة الجمهور شذوذا والمحدثون يرون مخالفة الأولى –سواء أكان فردا أم أكثر أو الأحفظ- شذوذا. فالشاذ مردود لتخلف شرط أو أكثر من شروط القبول عند القراء -بمخالقة رسم المصحف كثيرا-، والمحدثون يرجحون رواية أرجح منه لمزيد ضبط أو كثرة عدد أو غيرها من وجوه الترجيحات.
5.      المدرج
هو اسم مفعول من الادراج، أي الإدخال. من أدرج الشيء في الشيء ، إذا أدخلته فيه وضمنته إياه. فالـمــُدرج هو الــمُـدخل على المعنى اللغوي.
المدرج في اصطلاح القرآء: هو ما زيد في القراءات على وجه التفسير، كقراءة سعد بن أبي وقاص ر: "وله أخ أو أخت"[4] -من أم-، وقراءة عائشة ر: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى" –صلاة العصر- وغيرها. ولا يظهر تنويع هذا إلا بعد السيوطي. وقال ابن الجزري: "ربما يدخلون التفسير في القراءة إيضاحا وبيانا، لأنهم محققون لما تلقوه من النبي ص قرآنا. فهم آمنون من الالتباس وربما كان بعضهم يكتب معه". فالمدرج يدخل في الموضوع باعتبار أنه ليس قرآنا، وينظر إلى صحته تفسيرا. ومظنة هذه كتب التفاسير.
المدرج في اصطلاح المحدثين: المدرج ما غيّر سياق إسناده، أو أدخل في متنه ما ليس منه بلا فصل. وهو قسمان: مدرج الإسناد مع أقسامه، ومدرج المتن. فمدرج المتن أن يقع في المتن كلام ليس منه في أوله أو أثنائه أو آخره. كقول عائشة ر: يتحنث –يتعبد- في حديث عزلة الني ص في غار حراء. وتعمّده بلا سبب حرام. وكلما أوهم غير المراد كان حكمه أشد من المردود. وللخطيب في المدرج كتاب وزاد عليه العسقلاني.
المقارنة: اتفق القراء والمحدثون على عدم عدّ المدرج من نص القرآن أو الحديث. ويعتبره القراء من التفسير كما يعدّه المحدثون من بيان الغريب. والمدرج في السند لا وجود له في كلام القراء.
6.     الموضوع
هو لغة اسم مفعول من وضع الشيء، أي: حطه. سمّي بذلك لانحطاط رتبته.
الموضوع في اصطلاح القرآء: لا يوجد نص على تعريف القراءة الموضوعة. وابن الجزري سمى القراءة عن غير ثقة كابن السميفع وأبي السمال: "لا أصل لها". ولم يقل إنها شاذة بل ولا موضوعة. وقال الواسطي: إن الخزاعي وضع كتابا في الحروف. نسبه إلى أبي حنيفة، فأخذت خط الدارقطني وجماعة أن الكتاب موضوع لا أصل له. وفيه قراءة إنما يخشى اللهُ من عباده العلماءَ[5]-برفع الهاء ونصب الهمزة-.وقد برّأه غير واحد في بطلان النقل عنه حيث كان إماما جليلا من أئمة القراء الموثوق بهم. قد جعل السيوطي الموضوع كالنوع السادس والعشرين من أنواع القراءات إلا أنه لم يعرّفه. واكتفى بالتمثيل بقراءة الخزاعي.
الموضوع في اصطلاح المحدثين: الحديث الموضوع معلوم عند المحدثين منذ العصور الأولى كتنحّيهم الغالب بقوله ص: من حدث عني حديثا وهو يرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين.[6] واتفقوا على تسمية الحديث المكذوب على النبي ص بالموضوع كما عدّوه من أضعف المردود. وهو الذي صرح به ابن الصلاح بـــالـمختلَق المصنوع في النوع الحادي والعشرين.[7] وقد أفرد فيه المحدثون بالتآليف القيمة.
المقارنة: الموضوع أي المكذوب أشد أنواع المردود ضعفا عند القراء والمحدثين. ويدخل القراء المدرج فيه على وجه أنه ليس قرآنا كما أن المحدثين فرقوا بينه وبين لا أصل له. ولا منع من اتحاد الاصطلاحين لقابلية تطبيقه على علميهما.
الخاتمة
أنواع القراءات القرآنية والمصطلحات الحديثية لم تأت متطابقة. فالمقاصد في العلمين مختلفة. فالقرآن الكريم على كبر حجمه نص واحد متواترة الألفاظ الذي جاز نقله على أحرف سبعة توسعة للأمة حست توجيه النبي ص. وبقي منها ما طابق العرضة الأخيرة واحتمله رسم المصحف العثماني المجمع عليه الأمة. وقام بهذه المهمة نقلة اختصوا به واشتهروا بذلك. أما الحديث الشريف فنصوصه متعددة. رواها رواة لا يحصون كثرة. وتفرد بعضهم عن بعض وشذ آخرون. وبهذا تشكل لكل فريق عرف علمي خاص به. فالأنواع في العلمين تشابهت من حيث العموم وتباينت في نوع الشاذ مع أن الأصل اللغوي واحد. كما أن العلمين تأثر بمصطلحات اشتهرت عند متأخري علماء الأصول، من حيث اعتبارهم القبول والرد للآيات والأحاديث.



[1] الحجر: 9.
[2]النجم: 3-4.
[3]د/ مشعل محمد الحداري،المصطلحات المتشابهة بين القراء والمحدثين (دراسة مقارنة)، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، العدد 95، (1435 محرم)، ص 335-400.
[4] النساء: 12.
[5] الفاطر: 28.
[6] الترمذي، الجامع الصحيح، تحقيق أحمد مـحمد شاكر،  كتاب العلم، باب فيمن روى حديثا وهو يرى أنه كذب، (بيروت: دار إحياء التراث العربي، د.ت)، ج 4، ص 23، رقم الحديث 2106.
[7] ابن الصلاح، علوم الحديث، تحقيق نور الدين عتر، (دمشق: دار الفكر المعاصر، 2001)، ص 98.

تشبيه المعقول والمحسوس في الأحاديث النبوية



تشبيه المعقول والمحسوس في الأحاديث النبوية
محمد أنيس هداية

بسم الله الرحمن الرحيم. وبعد، فإن الأحاديث ثاني مصادر الشريعة الإسلامية. وقد حوت كالآيات القرآنية جوانب غضة حتى في مجال الاستدلال في اللغة وعلم البيان والمعاني والبديع. والنبيّ صلى الله عليه وسلم أفصح العرب وأبلغهم وأقواله وأحاديثه نماذج أدبية رفيعة يغترف من معينها أصحاب البيان ، وأرباب القلم في كل عصر ومصر.
وقد أكثر صلى الله عليه وسلم من ضرب المثل والتشبيه واعتماد الصورة البيانية في الكلام. وقد جمعت التشبيهات النبوية بين الجمال الأدبيّ والتعبير عن الغرض المقصود. فكانت نماذج رفيعة في التصوير الفني والأداء الأدبي.  وقد ورد المثل في كلام النبيّ عليه السلام بأنواعه المختلفة من تشبيه واستعارة ومجاز  وكناية وقصة  وغير ذلك من ضروب التصوير المتعدّدة. وكان لهذه الأساليب البيانية أثرا بالغا في إيضاح المعاني في نفس السامعين.
فالأحاديث الشريفة مزدهرة بالعناصر الأدبية والبيانية. والكلام العربي ذاع صيته وبلغ قمته بنحو هذا الكلام الفصيح البليغ الذي يمتاز عن غيره من أقوال الناس العادية. فهذه الأطروحة تستهدف إلى إلقاء الضوء على بعض أمثلة من علم البيان في الأحاديث النبوية التي تعالج منها بالتشبيه. وكلا طرفي التشبيه من المشبه والمشبه به ربما يكون محسوسا يدرك بأحد الحواس الخمسة أو يكون معقولا ووجدانيا لا يدرك بها. فقد جد فيها الباحث جهوده الخالصة المضنية لإخراج أمثلة قيمة لجميع الأنواع من تشبيه المعقول والمحسوس وبالعكس. فأنتج البحث أنه توجد هناك أمثلة لجميع أنواع البلاغة في الكلام النبوي نفسه لأنه الإنسان الكامل من سائر الأنحاء.
وبهذا الصدد الذي يُبحث عن التشبيه، نصادف إلى التعاريف البدائية. فالتشبيه في اللغة الدلالة.  وعلى المعنى الاصطلاحي هو الدلالة على مشاركة أمر لأمر في معنى لا على وجه الاستعارة التحقيقية والاستعارة بالكناية والتجريد.[1] فالدلالة على مشاركة شيء لشيء في معنى من المعاني أو أكثر على سبيل التطابق أو التقارب للغرض هو المراد بالتشبيه. وهو كثير في الكلام العربي حالا وماضيا.
وينقسم التشبيه إلى أقسام كثيرة باعتبار أركانها وغيرها. فطرفا التشبيه الذي هو المشبه والمشبه به يحتمل أن يدرك بالحواس الظاهرة الخمسة، السمع والبصر والشم والذوق واللمس أو يكون معنى من المعاني يدرك بالفكر أو الشعور.[2] ومن الملاحظ أن تشبيه المعقول بالمحسوس يكثر في الأحاديث النبوية حيث هو علّم الناس كثيرا مما لا يدرك بالحواس لتقريبها في أذهانهم. فنجعل مثالين لكل من الأقسام الأربعة مع الشرح والشواهد.

1- تشبيه المحسوس بالمحسوس

الحديث الأول:
حدثنى زهير بن حرب حدثنا جرير عن سهيل عن أبيه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رءوسُهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا. [3]
الشرح المختصر للحديث:
البخت : واحدتها البختية وهى الناقة طويلة العنق ذات السنامين. فعبّر الرسول عن قسمين من آخر الأمة التي لا يدخلان الجنة ولا يحصلون حتى ريح الجنة لبعدهم عما يوصلهم إليها. وهما:  أصحاب الظلم من الأمراء يستغلون الناس بما معهم من السياط نحو ذنب البقر، والثاني: النساء اللائي تظهر عوراتهن مع كسائهن اللينات. وهن المغنيات المفسدات لللأخرين بلباسهن وزينتهن والمعازف والمزامير مع ما تكون رؤوسهن كسنام الناقة المتحركة بتحركها.
الشاهد في الحديث:
في الحديث تشبيهان: تشبيه السياط بذنب البقر، وتشبيه رؤوسهن بسنام الناقة. وظاهر أنهما من تشبيه الحسي بالحسي، أي: السياط وأذناب البقر والرأس والسنام كلها مما يدرك بالحاسة الباصرة.

الحديث الثاني:
حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا مالك عن ثور بن زيد عن أبي الغيث عن أبي هريرة رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله – (وأحسبه قال: يشك القعنبي - كالقائم لا يفتر، وكالصائم لا يفطر). [4]
الشرح المختصر للحديث:
في هذا الحديث بين الرسول صلى الله عليه وسلم أجر الساعي وفضل علمه عند الله مما يماثل أجر المجاهد في سبيل الله لإعلاء كلمة الإسلام. فهذان العملان أجرهما مشابهان من منظور تعاليم الإسلام النيرة. والأرامل اللاتي توفي أزواجهم إنما يواجهن مشقة وضيقا على المستوى الاجتماعي تلقاء قضاء حوائجهم اليومية وغيرها. فالذي يسعى في أمورهن يفعل عملا محمودا كالمجاهد.
الشاهد في الحديث:
شبّه الساعي الذي يذهب ويجيء في تحصيل ما ينفع الأرملة بمن يجاهد في سبيل الله أو بمن يقوم الليل بلا تعب أو كالصائم أياما متتالية حسب رواية القعنبي في تشابه الأجر لهما لعظم عملهما. وطرفا التشبيه في الحديث مدرك بالحسّي.


2- تشبيه المعقول بالمعقول

الحديث الأول:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني حدثنا سلمة بن رجاء حدثنا الوليد بن جميل حدثنا القاسم أبو عبد الرحمن عن أبي أمامة الباهلي قال : ذُكر لرسول الله صلى الله عليه و سلم رجلان: أحدهما عابد، والآخر عالم، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين حتى النملة في حجرها وحتى الحوت ليصلّون على معلّم الناس الخيرَ.[5]
الشرح المختصر للحديث:
بيّن رسول الله بصدد العالم والعابد بأن فضل العالم على العابد يختلف كفضله على أصحاب أدنى المراتب في الأمور الدينية لتعارض المرتبتين علوا وسفلا. ثم عبّر بدعاء سائر الخلق على من يعلّم الخير لغيره.
الشاهد في الحديث:
لقد شبّه فضل العالم على العابد بفضله صلى الله عليه و سلم على الأدنى من الأمة ما يصرح بأعلوية قدر العالم على العابد الجاهل لأنه ربما يوصله إلى بطلان العبادات. والفضل لا شك أنه وجداني لا يدرك بالحس. فهذا من أنواع تشبيه المعقول بالمعقول.

الحديث الثاني:
وحدثنا أبو بكر بن أبى شيبة وأبو كريب وابن أبى عمر - واللفظ لأبى كريب - قالوا حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبى عمرو الشيبانى عن أبى مسعود الأنصارى قال: جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: إنى أبدع بى فاحملنى. فقال: ما عندى. فقال رجل: يا رسول الله أنا أدله على من يحمله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله. [6]
الشرح المختصر للحديث:
معنى أُبدع : كلّ وتعِب. وفى بعض النسخ بُدّع بى. أي: هلكت دابتى وهى مركوبى. وفي الحديث فضيلة الدلالة على الخير والتنبيه عليه والمساعدة لفاعله. والمراد بمثل أجر فاعله أن له ثوابا بذلك الفعل كما أنه موافق للحديث الصحيح "من سن سنة حسنة ومن سن سنة سيئة".[7]
الشاهد في الحديث:
في الحديث تشبه أجر من دلّ على أعمال خير  بأجر فاعل ذلك بسببه.  بلا يلزم أن يكون قدر ثوابهما سواء، كما أن لمن سن سنة حسنة أجر فاعليه بعده لأنه الذي بدأ به. فهذا أيضا من أنواع تشبيه المعقول بالمعقول.

الحديث الثاني:
حدثنا مسدد قال: حدثنا بشر قال: حدثنا ابن عون عن ابن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه: ذَكر النبيَ صلى الله عليه وسلم قعد على بعيره وأمسك إنسان بخطامه أو بزمامه. قال: أي يوم هذا ؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسمّيه سوى اسمه. قال: أليس يوم النحر ؟ قلنا بلى. قال: فأى شهر هذا ؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. فقال: أليس بذي الحجة ؟ قلنا بلى. قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ليبلغ الشاهد الغائب فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه.[8]
الشرح المختصر للحديث:
الراوي أبو بكرة ذكر  عن النبي حالة حجة الوداع وبلال أخذ بخيط الناقة خوف الاضطراب وقت الخطاب للناس. فقال النبي عن تعظيم ذلك اليوم والشهر والبلد كما أكّد عن تكريم دماء الناس وأموالهم وأعراضهم. وأمر بتبليغ هذه الرسالة الحاضر للغائب والقريب للبعيد لعظم هذه المقالة النيرة من الوحي السماوي أو البشريات النبوية من خير الورى أنجبت تيارا سريعا في القيم الإسلامية.
الشاهد في الحديث:
والتشبيه في قوله حرام كحرمة يومكم هذا وما بعده. فشبه تحريم الأنفس والأموال والاعراض بتحريم البلد والشهر واليوم لاستباحتهم بها في الجاهلية فطرأ الشرع عليهم بأن تحريم دم المسلم وما له وعرضه أعظم أو يشابه تحريم البلد والشهر واليوم في تعظيمه وعدم هتكه بأمر من الله. والحرمة أمر يدرك بالعقل لا الحواس فهذا النوع أيضا من تشبيه المعقول بالمعقول.

3- تشبيه المعقول بالمحسوس

الحديث الأول:
حدثنا عبدة بن عبد الله حدثنا حسين الجعفي عن زائدة حدثنا بيان بن بشر عن قيس بن أبي حازم حدثنا جرير قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة البدر فقال: إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون هذا لا تضامّون في رؤيته.[9]
الشرح المختصر للحديث:
بشّر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين برؤيتهم الله بعد هذا العالم في الآخرة حال كونهم لا تتضامون في رؤيته ولا تضارّون باجتماع في جهة عيانا وظاهرا كما ينظرون إلى البدر  في الدنيا. ورؤية الله تعالى جائزة بالعقل بمعنى الانكشاف التام بالبصر  عند أهل السنة والجماعة.[10]
 الشاهد في الحديث:
فقد شبه هنا رؤية المؤمنين ربهم في الآخرة برؤيتهم البدر. فرؤية الله معقول ورؤية البدر محسوس. ولذلك هذا الحديث دليل على تشبيه المعقول بالمحسوس.

الحديث الثاني:
حدثنا أحمد بن يونس حدثنا عبد العزيز الماجشون أخبرنا عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر  رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الظلم ظلمات يوم القيامة.[11]
الشرح المختصر للحديث:
ينذر النبي صلى الله عليه وسلم بقبح الظلم وعاقبته بهذا الحديث حيث يكون الظلم في الآخرة كالظلمات للمرء الذي كان يشتغل بأعمال الظلم. فيرشدهم إلى طريق العدل.
 الشاهد في الحديث:
شبه النبي صلى الله عليه وسلم الظلم بالظلمات لأن الظلم ينشأ عن ظلمة القلب فإنه لو استنار بنور الهدى لاعتبر بالعدل.[12] فالظلم أمر معقول وقد شبه بالظلمات في فحشه وعدم الاهتداء في الظلمة الحالكة المظلمة. وهذا من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس.

4- تشبيه المحسوس بالمعقول

الحديث الأول:
أخبرنا أبو محمد السكرى أخبرنا إسماعيل الصفار حدثنا عباس بن عبد الله الترقفى حدثنا سعيد بن عبد الله الدمشقى حدثنا الربيع بن صبيح عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا مررتَ ببلدة ليس فيها سلطان فلا تدخلْها، إنما السلطان ظلُّ الله ورُمحه فى الأرض.[13]
الشرح المختصر للحديث:
الإمام العادل خليفة الله الذي يقوم بشريعة الله في الدنيا وفقا لأوامره في رعيته وزجرا عن مناهيه فيهم. فلذلك شبه النبي صلى الله عليه وسلم السلطان كظل الله وكرمحه.
الشاهد في الحديث:
في هذا الحديث قد شبه السلطان بظل الله أو رمحه في أنه ينوب عنه وينصر في إقامة أمور الشريعة. والسلطان محسوس لا محالة إلا أن ظل الله أمر معقول. فهذا من جنس تشبيه المحسوس بالمعقول.

الحديث الثاني:
حدثنا محمد بن عباد وابن أبي عمر قالا، حدثنا مروان عن زيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قيل يا رسول الله ادع على المشركين قال: إني لم أبعث لعانا وإنما بعثتُ رحمةً، وفي رواية: لـمَحق الأوثان والمعازف والمزامير وأمر الجاهلية".[14]
الشرح المختصر للحديث:
بين النبي صلى الله عليه وسلم بعثته الإلهية كرحمة لسائر الخلق أجمعين من كل العقوبات والمظلمات وكهدي من الأمور الباطلة الزائغة، مما قام بنحو إزالة عبادة الأوثان والمطارب وآلات اللهو وشنائع الجاهلية الظلماء.
الشاهد في الحديث:
قد شبّه النبي صلى الله عليه وسلم نفسه في الحديث بالرحمة وبالهدي. فهذا النوع يكون مثالا لتشبيه المحسوس بالمعقول.

الخاتمة
الأحاديث النبوية تعد من أهم المعتمدات والمستندات في اللغة العربية حيث إنها مفعمة بالقوة الأدبية وجودة اللغة العربية، وفيها ما تدل على إعجاز النبي صلى الله عليه وسلم وإبهاره في تفنّن الكلام وتزيينه، وقد سعد الباحث لإيجاد ميزات قيمة التي تلوح في ملامح الأقوال النبوية خاصة في مجال التشبيه والتمثيل، وبالنسبة إلى سائر أقسام التشبيه والتمثيل يختص الحديث دورا قياديا في علم البيان. فكأن كلامَه منسوج بالحكمة واللهجة الأصيلة، وتزدان قولات النبي عندما ندرك أنه يأتي بهذا الكلام ارتجالا بدون أي تكليف ولا تقشّف خاليا من الحشو والتطويل، ومع ذلك أنه يولد آراء وفكرا وخواطر جديدة لكل من يستمع كلامه ويدرك فحواه.
وأما التشبيه فإن له قيادة في توجيه المعاني والأفكار، لما أنها تقرب السامعين إلى فهم عمقه ودقته وغايته، وتدلي مسامع الحضار أيضا للمسايرة مع أقواله، وبهذا الكلام المطرز المزين بزيّ التشبيه وحلية التمثيل تكلّم النبي كل صحابي عربي وبدوي، حيث يستنبطون منه معنى جديدا وفهما لطيفا يسهل طريقهم إلى نهج البلاغة واللغة والأدب.

المصادر والمراجع

الكتب:
البخاري، محمد بن إسماعيل،  (1407)، الجامع الصحيح، تحقيق مصطفى ديب البغا، ط3، بيروت: دار ابن كثير،
البيهقي، أحمد بن الحسين، (1414)، السنن الكبرى، تحقيق : محمد عبد القادر عطا، المكة: مكتبة دار الباز .
الترمذي، محمد بن عيسى، (د.ت)، سنن الترمذي، تحقيق : أحمد محمد شاكر، بيروت: دار إحياء التراث العربي.
التفتازاني، سعد الدين، (1370)، مختصر المعاني،  د.م: المكتبة التهانوية.
التفتازاني، سعد الدين، (1426)، شرح العقائد النسفية، ممبي: مجمع رضا للنشر.
العسقلاني، علي ابن حجر، )1380)، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، القاهرة: المكتبة السلفية.
الميداني، عبد الرحمن حبنكة، البلاغة العربية: أسسها وعلومها وفنونها وصور من تطبيقاتها بهيكل جديد من طريف وتليد، (دمشق: دار القلم، 2010)، 2/193.
النووي، يحيى بن شرف، ( 1392)، المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، ط2، بيروت: دار إحياء التراث العربي.
النيسابوري، مسلم بن الحجاج، ( 2007)، صحيح مسلم، تحقيق فؤاد عبد الباقي، ط 3، بيروت: دار الأفاق الجديدة.
المجلات والرسائل:
محمد إبراهيم خليفه شوشتري وعلي أكبر نورسيده، (١٣90)، دراسة صور التشبيه في الكلام النبوي الشريف، مجلة دراسات في اللّغة العربية وآدابها ، العدد 9، جامعة الشهيد طهشتي، طهران.
خليل هحود أيوب، (1428)، لغة الحديث النبوي بين التشثيه والـمجاز: دراسة في الصحيحين، الرسالة الجامعية، قسم البلاغة والنقد الأدبي لجامعة القاهرة، القاهرة.
المصادر الأجنبية:
www.ahlalhadith.com/archives//



[1] سعد الدين التفتازاني، مختصر المعاني،  (د.م، المكتبة التهانوية، 137)، ص 178.
[2] عبد الرحمن حبنكة الميداني، البلاغة العربية: أسسها وعلومها وفنونها وصور من تطبيقاتها بهيكل جديد من طريف وتليد، (دمشق: دار القلم، 2010)، 2/193.
[3] مسلم بن الحجاج النيسابوري، صحيح مسلم، تحقيق فؤاد عبد الباقي، كتاب اللباس والزينة، باب النساء الكاسيات العاريات المائلات المميلات، (بيروت: دار الأفاق الجديدة، ط 3، 2007)، ص 1680، رقم الحديث 2128.
[4] البخاري، الجامع الصحيح، تحقيق مصطفى ديب البغا، كتاب الأدب، باب الساعي على المسكين كتاب، (بيروت: دار ابن كثير، ط3، 1407، 5/2237، رقم الحديث 5660.
[5] محمد بن عيسى الترمذي، سنن الترمذي، تحقيق : أحمد محمد شاكر، باب ما جاء في فضل الفقة على العبادة، (بيروت: دار إحياء التراث العربي، د.ت)، 5/50، رقم الحديث 2685.
[6] صحيح مسلم، الإمارة، باب فضل إعانة الغازى فى سبيل الله بمركوب وغيره وخلافته فى أهله بخير، 3/1506، رقم الحديث 1893.
[7] يحيى بن شرف النووي، المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، (بيروت: دار إحياء التراث العربي،  ط2، 1392)، 6/166.
[8] البخاري، كتاب العلم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم رب مبلغ أوعى من سامع. 1/37،  رقم الحديث 67.
[9] البخاري، كتاب الإيمان، باب قول الله تعالى : {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة}. 6/2703، رقم الحديث 6997.
[10]  التفتازاني، شرح العقائد النسفية، (ممبي: مجمع رضا للنشر، 1426)، ص 56.
[11] صحيح البخاري، كتاب المظالم، باب الظلم ظلمات يوم القيامة. 2/864، رقم الحديث 2315.
[12] ابن حجر العسقلاني، فتح الباري بشرح صحيح الإمام أبي عبد الله مـحمد بن إسماعيل البخاري، (القاهرة: المكتبة السلفية، 1380)، ج 1، ص 346.
[13] أحمد بن الحسين البيهقي، السنن الكبرى، تحقيق : محمد عبد القادر عطا، كتاب قتال أهل البغي، باب فضل الإمام العادل، (مكة: مكتبة دار الباز ، 1414)، 8/162، رقم الحديث 16427.
[14] مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن لعن الدواب وغيرها، 2/2006، رقم الحديث 2599.